فلسطين ما قبل الميلاد | أرشيف

تلّ مجدّو شمال فلسطين

 

المصدر: «مجلّة المقتطف».

العنوان الأصليّ: «فلسطين قبل عصر التاريخ».

زمن النشر: 1 شباط (فبراير) 1911.

 


 

كتب السنيور سلفاتوري مينوتشي مقالة في «المقتطفات الحديثة – Nuva Antologia» موضوعها فلسطين المجهولة، ذكر فيها أحوال بلاد فلسطين، بل البلاد السوريّة كلّها، قبل عصر التاريخ، فاقتطفنا منها ما يأتي وعلّقنا عليه بعض الحواشي.

كانت فلسطين في أواخر الدور الثلاثيّ وبداية الدور الرباعيّ من الأدوار الجيولوجيّة، كلسيّة التربة صخريّة على طول الأرض الجبليّة عبر الأردن، بركانيّة قرب البحر الأحمر، وقد خسفت أرضها عند مخارج الأردنّ فغارت وانفتح فيها وادي الأردن هوّة عميقة أعمق من سطح بحر الروم. تلا ذلك أزمنة كثرت فيها السيول فجرفت الأتربة إلى هذا الوادي فملأته من عند مخارج الأردنّ وعقبتها أزمنة جفاف كثرت فيها الزلازل البركانيّة فحسرت مياه بحر الروم وردّت إلى حدود الحاضرة وتبخّرت المياه من وادي الأردنّ فلم يبقَ منها إلّا بحيرة لوط، ولا تزال آثار الزلازل والبراكين على ضفّتها إلى الآن. ثمّ جاءت أزمنة هطلت فيها الأمطار وجرفت الأتربة إلى وادي الأردنّ وصيّرته في حاله الحاضرة وأبقت فيه بحيرة الحولة وبحيرة طبريّا.

النّاس الّذين سكنوا فلسطين أولًا كانوا يقيمون في كهوف الجبال، ولم تزل آثارهم فيها من أدوات الصوان أو الظران الّتي كانوا يستعملونها. ويقسم عصر الصوّان أو العصر الحجريّ إلى قسمين؛ الأوّل العصر الحجريّ القديم الّذي كان الإنسان فيه يشقّق حجارة الصوّان ويستعملها كما هي من غير أن يهذّبها، والثاني هو العصر الحجريّ الحديث الّذي كان يستعمل فيه قطع الصوّان بعد تهذيبها حتّى تصير على شكل السهام والمُدى. امتدّ هذا العصر إلى فلسطين زمن التاريخ، فقد جاء في التوراة أنّ بني إسرائيل كانوا يختنون أولادهم بقطع من الصوّان.

ممّا يستحقّ الالتفات أنّ أكثر الأدوات الصوانيّة وُجِدَت في أعالي فلسطين، ويترجّح من ذلك أنّ السكّان الأقدمين اعتصموا بالجبال في الأزمة الّتي غمرت فيها السيول سواحل بحر الروم والأراضي المجاورة للبحر الأحمر في الدور الرباعيّ، وذلك قبل المسيح بنحو أربعة أو خمسة آلاف سنة.

ثمّ كثر الناس في فلسطين وكثرت آثارهم في كهوفها، وهي تمتدّ من ذلك العصر إلى العصر التاريخيّ في الألف الثالث قبل المسيح، وحينئذ غزا البلاد أقوام من جهة المشرق تدلّ آثارهم على أنّهم كانوا ذوي عزوة ونجدة وأقاموا في نجود موآب والجولان والآكام القريبة من الأردن. ومن آثارهم الباقية هناك ’المناطير’ (Dolmens) وهي حجارة يوضع اثنان منها الواحد تجاه الآخر ويوضع حجر ثالث فوقها وتحاط كلّها بدائرة من الحجارة الصغيرة. ومنها الرجم وهي كثيرة في بلاد موآب والمرجّح أنّ ’المناطير‘ كانت قبورًا لشبهها بالقبور القديمة، ولأنّ البدو يحترمونها حتّى الآن احترامًا دينيًّا، وهم أشدّ الناس تمسّكًا بعاداتهم القديمة. وقد رأيت اثنين من هذه ’المناطير‘ في الجولان وفي الواحد منها حجر منقوش كرأس الإنسان، وفي الثاني حجر عليه نقوش تشبه الكؤوس الّتي كانت السكائب تسكب فيها وقت العبادة في المدافن القديمة.

يمتاز الألف الثالث قبل المسيح بمهاجرة جموع كثيرة من ضفاف الفرات ودجلة أقامت أولًا في بابل وآشور ثمّ في سوريّة وآسيا الصغرى وعبرت إلى فلسطين وغربيّ بلاد العرب والقطر المصريّ. وهي المعبّر عنها بالهجرة الساميّة، وإذا نظرت إليها من حيث فلسطين وحدها، وجب أن تسمّى بالهجرة الكنعانيّة نسبة إلى سكّان فلسطين قبل مجيء بني إسرائيل إليها.

المرجّح أنّ الهجرة الكنعانيّة حدثت نحو سنة 2500 قبل المسيح، وكانت فلسطين حينئذ كثيرة الأثمار من العنب والتين والزيتون، فأقام هؤلاء الناس فيها جماعات بين الجبال في كهوف صناعيّة أو طبيعيّة، وكانت أدواتهم وأسلحتهم من الصوان وهي متينة حادّة حتّى استطاعوا أن يحفروا بها صهريجًا في جازر عمقه مئة قدم وقطره من أسفل 14 قدمًا، وكانوا يصنعون آنيتهم من الخزف بأيديهم وينقشونها نقشًا ساذجًا ويدفنون موتاهم في الكهوف ويحرقونهم حرقًا. ولكن لم يُترَكوا في وطنهم هذا آمنين زمانًا طويلًا، بل غزاهم غزاة أشدّاء لهم أسلحة وآنية من البرونز فغلبوهم وقتلوا بعضهم واستعبدوا البعض الآخر وسكن هؤلاء الغزاة في الكهوف الّتي كان يسكنها أهالي البلاد ثمّ بنوا البيوت والمدن كما كانت تبنى في بلاد الكلدانيّين وعلى ضفاف النيل، وجعلوا الكهوف الغائرة في الأرض مدافن لموتاهم أو معابد لآلهتهم ولم يكونوا يحرقون الموتى إلّا إذا أرادوا إقامة فريضة دينيّة. ففي جازر كهف كبير فيه طبقة من بقايا الأجساد المحروقة يخالطها آنية من العصر الحجريّ وفوقها طبقة فيها رفات أناس لم يحرقوا ومعها آنية تختلف عن الأولى تدلّ على أنّها من عهد الكنعانيّين.

يظهر من أشكال قطع الخزف أنّ الآنية الخزفيّة تصنع باليد من غير دولاب إلى نحو القرن السادس عشر قبل المسيح، وحيئذ صارت تدار على الدولاب وتشبه آنية الخزف الّتي كانت تصنع في آسيا الصغرى في أواسط الألف الثاني قبل المسيح شكلًا وإتقانًا وزخرفةً، فيمكن تسمية ذلك العصر بالعصر الكنعانيّ الآجيّ نسبة إلى بحر إيجا بين آسيا الصغرى وأوروبّا.

ثمّ جاء العصر العبرانيّ في القرن التاسع قبل المسيح وهو يمتاز بعروض جلبها التجّار الفينيقيّون من قبرص إلى فلسطين، لكنّ المصنوعات الكنعانيّة انحطّت في إتقانها كما يستدلّ من شكل الآنية الخزفيّة الباقية منها. وقد رأى الباحثون في الآثار القديمة أنّ قطع الخزف بمثابة تاريخ مكتوب يدلّ على أحوال الأقدمين وما توالى على مدنهم من البناء والنقض في العصور الغابرة، فاستدلّوا بها على أنّه تعاقب على مدينة جازر مثلًا ستّة أدوار أو سبعة هدمت فيها ثمّ بنيت ثمّ هدمت ثمّ بنيت كأنّ الأعداء كانوا يجتاحونها ويهدمونها ثمّ يعود إليها من بقي من سكّانها فيبنونها وبعد سنوات يجتاحها الأعداء ثانية ويحاصرونها فيفتحونها ويهدمونها وهلمّ جرّا. وأوّل مدينة بنيت هناك، وفي تعنّك ومجدّوا أيضًا، كانت في العصر الحجريّ لأنّها موازية للكهوف الّتي كان يسكنها أهل ذلك العصر وفي أنقاض مبانيها أدوات مثل أدواتهم الباقية في كهوفهم والظاهر أنّهم لمّا بنوا الأكواخ وسكنوها أبقوا الكهوف معابد لمعبوداتهم.

لمّا انقضى العصر الحجريّ جعل الكنعانيّون يبنون معابدهم خارج الكهوف، وكان المعبد في أوّل أمره سورًا ارتفاعه نحو مترين يحيط بجرم مكشوف لا سقف له وفي هذا السور من الداخل محراب يقف فيه الكاهن أو يوضع فيه تمثال المعبود، وفي المحراب أعمدة ارتفاعها نحو مترين وعرضها مناسب لارتفاعها وأعلاها مزدان بالنقوش، ويظنّ أنّه كان موقفًا للمعبود أو مقامًا له وهو المسمّى في التوراة ’بيت إيل‘، أي بيت الإله، وفي هيكل جازر القديم ثمانية من هذه الأعمدة ارتفاع كلّ منها من مترين إلى ثلاثة أمتار وفيها عمود أقصَرُ من البقيّة هو وعمود آخر مطروح إلى جانبه وفي رأي المستر مكلستر الأركيولوجيّ أنّ هذين العمودين من بقايا هيكل الكنعانيّين الأقدمين، ولم يزل على رأس القائم منهما مادّة لزجة كأنّها من السكائب القديمة الّتي كانت تسكب للآلهة من الدم والشحم والزيت واللبن ومن تقبيل الألوف من المتعبّدين.

وقد وجد بعضهم في خرائب تعنّك ستًّا وثلاثين قطعة من الخزف جمعها بعضها إلى بعض فظهر أنّها قطع مذبح واحد ارتفاعه نحو ثلاث أقدام وعرض كلّ جانب من جوانبه الأربعة قدمان وهو مجوّف من داخله وله ثقب صغير في جانبه. والجوانب الأربعة منقوشة، فعلى وجهه رأسا أسدين وثلاثة رؤوس بشريّة وعلى جانبيه الأيمن والأيسر ثوران مجنّحان لهما رأسان كرؤوس الناس وعلى الجانب الآخر أيضًا ولد التفّت حول عنقه أفعى وخنقته، وفي أسفل وجهه المقدّم صورة شجرة وعنزتين إلى جانبيها، وعند زواياه العليا شيء كالقرون ولا شبهة في أنّه مذبح لا للذبائح بل لتقديم المحروقات من البخور والطيوب.

وقد وجد هذا المذبح بين آثار لا شبهة في أنّها إسرائيليّة، وتكسّر وهو قائم في مكانه بالانحلال الطبيعيّ، فقد كان الإسرائيليّون يحرقون البخور فيه أمام الله نحو سنة 670 قبل المسيح، بعد خراب السامرة بنصف قرن. والثوران المجنّحان صورتا الكروبيم والمذبح كلّه مثل مذبح البخور الموصوف في سفر الخروج من أسفار التوراة، وقد وجدت مذابح أخرى في جازر ولكنّها مصريّة الأصل لأنّها مثل المذابح المصريّة.

وأهمّ الضحايا الكنعانيّة والإسرائيليّة الضحايا البشريّة، ولا سيّما حرق الأطفال ضحيّة للآلهة. وقد ظهر من التنقيب في آثار المدن القديمة ما يؤيّد وجود هذه العبادة، فقد وُجِدَ في خرائب تعنّك مدفن فيه كثير من عظام الأطفال وفي جازر مدفن آخر كلّ ما فيه عظام أطفال حرقوا ضحايا للآلة أو وُئِدُوا لهذه الغاية.

وكان الأقدمون يضحّون بالناس وقت إقامة المباني العموميّة كالقلاع والحصون والأسوار، فقد وجد بعضهم بين حجارة حصن مجدّو عظام فتاة عمرها نحو خمس عشرة سنة ودفنت حيّة بين تلك الحجارة لكي تكون روحها حارسة للحصن.

ويظهر من الأساليب المختلفة الّتي كان الكنعانيّون يدفنون بها موتاهم أنّهم كانوا يعتقدون بوجود النفس وبقائها بعد الموت، فقد وُجِدَت في قبور موتاهم صحاف فيها من بقايا الأطعمة الّتي كانوا يضعونها لنفس الميّت.

ويقال بشكل عامّ إنّ الكنعانيّين سكّان فلسطين كانوا قبل عصر التاريخ أقوامًا أشدّاء أبقوا لهم أثرًا في التاريخ لا يمحى، وبقيت فلسطين لهم ألفيّ سنة ولكنّهم كانوا على جانب عظيم من التخاذل والتباغض فطمع فيهم مجاوروهم واجتاحوا بلادهم مرارًا. وكانوا يعتمدون تارة على مصر وتارة على بلاد الكلدان، وكان أشرافهم يتكاتبون باللغة البابليّة في عهد موسى الكليم، كما يظهر من الصفائح الخزفيّة الّتي وجدت في خرائب تعنّك، وذلك قبل اكتشاف طريقة الكتابة الفينيقيّة. ولمّا دخل بنوا إسرائيل فلسطين كانوا برابرة في عمرانهم بالنسبة إلى عمران الكنعانيّين، ثمّ تغلّبوا على الكنعانيّين رويدًا رويدًا واقتبسوا عمرانهم بما فيه من الحسنات والسيّئات ولم يقتبسوا ذوقهم الصناعيّ، ولكنّهم فاقوهم في الغرائز الدينيّة فنشأ منهم الأنبياء.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.